سمير الجمل
يبدو أنه أخطأ الطريق من التمثيل إلى السياسة .. ومع ذلك المسألة
ليست بعيدة لأن رئيس الوزراء الإيطالب " سيلفينو بيرلسكوني " بدأ حياته
مغنيا على السفن لتسلية الركاب ثم تحول إلى التليفزيون ليعمل كمذيع ..
ويبدو أن وقار المنصب السياسي لم يمنعه أن يأتي بأفعال وأقوال صبيانية ..
لا هي تتناسب مع سنه ولا مكانته .. ومن ذلك قوله لرئيس الوزراء الدنماركي
على الملأ مرحبًّا به في مؤتمر صحفي جمعهما سويًا وأمام عدسات الإعلام :
كم أنت وسيم أيها الرئيس حتى إنني مستعد أن أقدم لك زوجتي من باب الترحيب
!!
الخجل أصاب رئيس الوزراء الدنماركي بينما راح بيرلسكوني يضحك غير
مبالٍ .. وعلى النقيض من ذلك " بكى " في الكنيست الإسرائيلي وهو ينفذ
تقرير القاضي جولدستون الذي فضح فيه جرائم إسرائيل في حربها الأخيرة على
غزة .. وتناقلت وكالات الأنباء العالمية صورته وهو يمسح دموعه .. بينما
رئيس الوزراء الاسرائيلي نتانياهو ينظر إليه مندهشا : كيف لهذا الرجل أن
يكون بارعا إلى هذا الحد في الضحك والبكاء إلا إذا كان يمتلك الموهبة
كممثل، وكيف لا وهو الذي يمتلك أكبر إمبراطورية للإعلام في إيطاليا ويرأس
أكبر أنديتها "ميلان "، وهو الذي صعد إلى موقعه ثلاث مرات رغم عشرات
الاتهامات التي وجهت إليه منها الفساد المالي والأخلاقي والتهرب الضريبي،
وبخلاف ذلك نشرت مواقع الإنترنت عدة صور فاضحة له مع فتيات في قصره الخاص
بجزيرة سردنبيا ولعل الحادث الذي تعرض له منذ شهور بسيطة عندما ضربه أحدهم
بتمثال صغير حطّم أسنانه، يكشف مدى حالة الغليان ضد تصرفات هذا الرجل غير
المسبوقة .. وكثير ما قامت الصحافة الإيطاليه اليسارية بانتقاده بأنه
الرجل الذي ينفق على صلعته أكثر مما تنفق حكومته على مكافحة الأمراض
المعدية في إشارة إلى عمليات التجميل التي خضع لها مؤخرا وكانت مثار سخرية
واسعة
وتجاوزات بيرلسكوني ليست قاصرة على انحيازه المستفر والمبالغ فيه لإسرائيل
إلى حد البكاء وهو ما لم يفعله الصهاينة أنفسهم بل إنه تطاول على رموز
بلاده التاريخية، وقبلها وبعدها طالب بالتخلص من العرب والمسلمين في
أوروبا لأن الحضارات الغربية هي التي يجب أن تنفرد بقيادة العالم لأن
الشعوب الإسلامية حمولة زائدة يجب التخلص منها .. وفي المقابل أوصى
الاتحاد الأوروبي بضرورة قبول إسرائيل كعضو عامل وفعّال في إشارة واضحة
لإبعاد تركيا عن طموحاتها في عضوية الاتحاد الأوروبي، وكانت مبرراته في
ذلك وكما أعلنها أن اليهودية والمسيحية الأوروبية فقط يمكنهم حكم العالم
بعيدا عن الغوغائية الإسلامية والعربية.
الرجل الذي تجاوز السبعين من عمره بثلاثة أعوام لا يستحي أن يقول أي
شيء .. ويفعل أي شيء في وقت متجاوز فيه كل حدود اللياقة والبروتوكول
والأخلاق، وبعد المشهد المأساوي في الكنيست اتجه لمقابلة محمود عباس أبو
مازن لمناقشة ما يسمى بعملية السلام في صورة تكشف مدى قدراته الهائلة على
الخروج من الساخن إلى البارد .. هو الذي يرفض جرائم اسرائيل ويساندها علنا
في ظلمها .. يتحول بكل بساطة إلى الفريق الفلسطيني المظلوم .. ربما ليطلب
منه المزيد من الصبر على المظالم الإسرائيلية التي لا تعد ولا تحصى تجاه
الشعب المحاصر الأعزل .. وهو لا يستحي وسط كل هذا أن يطلق تصريحات نارية
تجاه إيران ترضي بالطبع تل أبيب مطالبا بوقف الأنشطة النووية وهو ما يؤيده
فيه الجميع بشرط أن يمتلك الشجاعة وأن يطالب ماما إسرائيل أو الشقيقة
الكبرى كما يسميها .. بأن تكف عن امتلاك وسائل الدمار والهلاك وأن تدخل في
ذمرة البلدان التي قامت بالتوقيع على معاهده الحد من الانتشار النووي ..
وربما تجد إيران نفسها معزولة ووحيدة في مواجهة المجتمع الدولي.
والسؤال الآن : أين كانت دموع العاطفي بيرلسكوني عند قصف غزة ..
والهجوم على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس وهدم البيوت وحرق
المحاصيل وإبادة الأطفال والنساء بالقنابل العنقودية والفسفورية المحرمة
دوليا والتي استخدمتها اسرائيل وأدانها جولدستون في تقريره الرجل المعروف
بجذوره اليهودية .. والمعروف أيضا بأن ابنته تعيش في اسرائيل .. ومع ذلك
فإن الحق بالنسبه لهذا القاضي النزيه أحق أن يتبع ..
ونستطيع أن نكتشف الكثير من الملامح الهزلية في شخصية بيرلسكوني فقد
بكى في الكنيست وقال كل ما يؤيد تل أبيب وفق هواها .. ولم يجرؤ على النطق
بكلمة واحدة في حقها .. لكنه عندما ذهب الى رام الله لمقابلة محمود عباس
.. ومن باب المجاملة قال : بأن إيقاف الاستيطان هو الشرط الأساسي لإعادة
إطلاق مباحثات السلام .. وعلينا أن نسأل أنفسنا ونسأله : ألم يكن من
الأولى يا " بيرلسكوني " أن تقولها للأصدقاء في تل أبيب وفي يدهم الحل
والربط وهم أرباب الاستيطان ؟ .. ألم يكن الأفضل لحبك الأدوار واللعب
الدرامي المضبوط أن تطالبهم في اسرائيل بذلك .. وإلا فما جدوى أن تقدمها
في حضرة عباس وهو الذي يرددها ليله ونهاره ولا مجيب . وللأمانة فإن رئيس
الوزراء الممثل والرياضي والإعلامي والحبوب العاطفي .. قد قال أيضا بعد
الاجتماع الذي جرى في رام الله : كما أن ايطاليا تبكي ضحايا المحرقة
اليهودية فإنها أيضا تبكي ضحايا غزة .
وعموما له الشكر على ذلك .. لكن يظل السؤال الأهم .. ما الذي يرسخ في
الذهن؟ ... صورته وهو يبكي في الكنيست بدون مناسبة ؟ .. أم كلماته
المجاملة التي قالها من بعيد لبعيد للاستهلاك الإعلامي مع أنه يعرف الكثير
من فنون الاستعراض .. أظن أن السؤال يحتاج إجابة من " بيرلسكوني " شخصيا
بشرط أن يتم ذلك بينه وبين ضميره " إن وجد " ؟!
