د.زغلول النجار
يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ في محكم كتابه: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ
فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ
اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ
إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ﴾] التوبة:40[.
وهذه الآية الكريمة توثق توثيقا تاريخيا دقيقا لمرحلة من مراحل هجرة رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه صاحبه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ
وهما مختبئان في غار ثور، وكفار ومشركو قريش يطاردونهم في كل بقعة من أرض
مكة بعد أن كانوا قد تأمروا عليه وائتمروا به، وقرروا التخلص منه إما
بالسجن حتى الموت، أو بالقتل بأيدي ممثلين لجميع بطون قريش حتى يتفرق
دمه بين القبائل، أو بالنفي الكامل من أرضه، فأطلعه الله ـ سبحانه
وتعالى ـ على ما ائتمروا به، وأوحى إليه بالخروج، فخرج هو وصاحبه
الصديق الذي حمل معه كل ما بقي عنده من مال، حتى لجآ إلى غار ثور إلى
حين هدوء حملة قريش المذعورة في تقفي أثرهما ومحاولة اللحاق بهما.
وتسجل كل من كتب السيرة وكتب التاريخ أنه في فجر يوم الجمعة الموافق27
من شهر صفر سنة 14 من البعثة النبوية الشريفة (الموافق622/9/13 م)
هاجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه أبو بكر الصديق ـ رضي الله
عنه ـ من مكة المكرمة في طريقهما إلى المدينة المنورة انصياعا لأمر الله ـ
تعالى ـ بعد ثلاث وخمسين سنة قضاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في
مكة، ولم تكن هجرته فرارا من الاضطهاد، ولا بحثا عن الأمن، ولكن
استعدادا للجهاد في سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمته في الأرض، وإقامة دولة
الإسلام في يثرب.
وكان أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قد أعد ناقتين للخروج,، ودليلا
للطريق، وأمر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول القرشيون فيهما طيلة
النهار، ثم يأتيهما إذا أمسى الليل بما يكون من أمر المشركين,، وما
يدبرون من كيد لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه. كذلك درب
ابنته أسماء ـ رضي الله عنها ـ على حمل الزاد من الطعام والشراب إليهما في
الغار، ثم تعود مع أخيها إلى مكة قبل طلوع الفجر. وأمر الصديق ـ رضي
الله عنه ـ خادمه ومولاه عامر بن فهيرة أن يرعى الغنم في اليرق بين مكة
وجبل ثور، ليعفو على آثارهما وعلى آثار المترددين عليهما في الغار.
وليلة الهجرة النبوية الشريفة، قام أحد عشر شابا من كفار ومشركي
قريش بتطويق بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في محاولة لرصد حركته
حتى نام، وعند منتصف الليل قام ليأمر عليا بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ
بالنوم في فراشه وكلفه برد أمانات الناس المودعة عنده، وخرج ـ صلى الله
عليه وسلم ـ من داره بعد منتصف الليل، وشباب قريش محيطون بالدار وهم
متوشحون سيوفهم ينتظرون تنفس الصبح ليضربوا عنق رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ عند خروجه عليهم ضربة رجل واحد؛ كي يعرف الجميع أن كل قبائل مكة
قد اشتركت في إراقة دم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولكنه خرج
مخترقا صفوفهم دون أن يشعروا به، فقد أغشى الله أبصارهم فلم يدركوه,
وأخذ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينثر التراب على رؤوسهم وهو يتلو قول الحق ـ
تبارك وتعالى ـ ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ
خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ ]
يس:9[.
وبعد مغادرته داره تحرك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى دار أبي بكر
ثم انطلقا في رحلة الهجرة المباركة إلى غار ثور، وشباب كفار ومشركي قريش
مرابطون حول داره ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى يئسوا من خروجه عليهم،
فبدأوا ينظرون من ثقب الباب فيروا شخصا ينام في فراش رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ ومتسجيا ببرده الحضرمي الأخضر، فظنوا أن رسول الله لا يزال
نائما، فاطمأنوا حتى طلع الصبح، وخرج عليهم على ـ كرم الله وجهه ـ
فتبين لهم أنهم قد باءوا بالفشل والخسران والندم.
تحرك الرسول وصاحبه في اتجاه الجنوب من مكة المكرمة تمويها على مشركي قريش
الذين يعرفون أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج يقصد المدينة إلى الشمال من
مكة ، وسارا لمسافة عشرة كيلو مترات على أقدامهما حتى وصلا إلى جبل ثور
وأبو بكر مشفق على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خائف عليه من أن
تلمحه عين راصد، فتارة يمشي أمامه، وتارة يأتي خلفه، وثالثة يمشي على
يمينه، ورابعة على يساره، فسأله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن
سبب ذلك، فقال أبو بكر: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك،،وأذكر
الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك، لا آمن عليك.
وكان جبل ثور صعب المرتقي، كثير الأحجار، شامخ الارتفاع، فصعداه
بصعوبة شديدة حتى وصلا إلى فم الغار، وهمَّ النبي بالدخول إلى الغار
فسبقه أبو بكر قائلا: لا تدخل يا رسول الله حتى أدخله قبلك، فإن كان
فيه شيء أصابني دونك. ودخل أبو بكر الغار أولا، ودار على جوانبه
يتفحصها، فوجد فيها عددا من الفتحات فشق ثوبه إلى قطع صغيرة، وبدأ في
سد تلك الفتحات بها، وبقيت فتحتان متجاورتان لم يبق من قطع ثوبه شيء
ليسدهما ب،،فوضع قدميه عليهما خشية أن يكون بهما من الهوام ما قد يؤذي
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم نادى عليه فدخل وهيأ أبو بكر حجره
ليضع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأسه عليه, فجاء ووضع رأسه في
حجر أبي بكر ونام من شدة الإجهاد والتعب.
ثم فوجئ أبو بكر بحية في أحد الجحرين اللذين سدهما بقدميه تلدغه في إحدى
قدميه، فتحامل على نفسه، ولم يحرك قدمه حتى لا تخرج الحية فتؤذي رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن زاد عليه الألم فبدأ يبكي بكاء مكتوما
كي لا يوقظ الرسول من نومه، ولكن سقطت بعض دموعه رغما عنه على وجه رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتنبه واستيقظ قائلا: مالك يا أبا بكر؟
فقال: لدغت فداك أبي وأمي، فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بمعالجة مكان اللدغة فشفيت، وذهب الألم الذي كان يجده أبو بكر.
وعندما طلع الفجر ووصل نور الصباح إلى داخل الغار لاحظ رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ أن أبا بكر لا يلبس ثوبه الذي خرج به من داره، فسأله
النبي عنه فأخبره بأنه قد مزقه ليسد به جحور الغار خوفا عليه من الهوام،
فرفع النبي يديه إلى السماء وقال: اللهم اجعل أبا بكر في درجتي يوم
القيامة.
شمر كفار ومشركو قريش عن سواعدهم في طلب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وصاحبه، وجندوا كل إمكاناتهم في سبيل تحقيق ذلك، وأعلنوا عن مكافأة
قدرها مائة ناقة لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين كائنا ما كان.
وطمعا في المكافأة جد كل من الفرسان وقصاصي الأثر في طلب رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ وصاحبه، وانتشروا في الجبال والوديان من حول مكة حتى
وصل المقتفون للأثر إلى باب غار ثور، وقال أحدهم: والله ما جاز
مطلوبكم هذا المكان، وسمعه أبو بكر فبكي بكاء مكتوما، وهمس لرسول الله
ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلا: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، لو هلك
أبو بكر لهلك فرد واحد، أما أنت يا رسول الله لو هلكت لذهب الدين وهلكت
الأمة، والله ما على نفسي أبكي، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره،
فطمأنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلا: يا أبا بكر! ما ظنك
باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا.
وتسجل الآية الكريمة التي اخترناها عنوانا لهذا المقال حوار أبي بكر مع
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الغار تسجيلا توثيقيا دقيقا لواقعة
حدثت من قبل1431 سنة، مما يعتبر وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي
والتاريخي في كتاب الله يشهد له بالربانية، كما يشهد للرسول الخاتم الذي
تلقاه بالنبوة وبالرسالة.
ومكث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه في الغاز ثلاث ليال، حتى
يئس المطاردون من كفار ومشركي قريش من الوصول إليهما، فأمنا الطريق بعد
ذلك إلى يثرب.
ولما هدأ الطلب في المغارات المحيطة بمكة, جاء عبد الله بن أبي بكر
بالراحلتين اللتين كان أبوه قد أعدهما لتلك الرحلة المباركة، وبالدليل
عبد الله بن أريقط، وبالراعي عامر بن فهيرة، كما جاءت أسماء بنت أبي
بكر بزاد رحلتهما. وخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه من
الغار في ليلة الاثنين غرة ربيع الأول في السنة الأولى للهجرة
(الموافق622/9/16 م), فقدم أبو بكر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ أفضل الراحلتين حتى ركبها وركب هو الأخرى, وانطلقا سالكين طريق
الساحل وهو أطول من الطريق الجبلي, وذلك إمعانا في التعمية على
المطاردين.
وفي الطريق لحق بالمهاجرين أحد فرسان قريش واسمه سراقة بن مالك, فلما
قرب منهما غاصت أقدام فرسه في الرمال فاستجار برسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ فأجاره, ثم دفعه الطمع إلى تناسي ما وقع له, فاندفع محاولا
اللحاق بركب المهاجرين ويحدث له أشد مما وقع له, وتكرر ذلك مرارا حتى
آمن بأنه لا سبيل له إلى ركب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعاد
أدراجه صادا للطالبين ورادا للمتعقبين ركب الرسول وصاحبه, والرسول ـ صلى
الله عليه وسلم ـ يقول: اللهم اصحبني في سفري, واخلفني في أهلي.
وفي الطريق إلى المدينة نزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه ومن
معهما لشيء من الراحة والتزود بزاد السفر, فمروا في منطقة قديد على خيام
لأم معبد الخزاعية, فسألوها أن تبيعهم شيئا من اللحم أو اللبن أو
التمر, فشكت أن المنطقة تمر في شدة من الجدب والعوز قائلة: والله لو
كان عندنا ما أعوزناكم القرى. ثم أبصر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
شاة في جانب الخيمة, فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: خلفها
الجهد عن الغنم, قال: أفهل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك.
قال: أتأذنين أن أحلبها؟ قالت: بأبي أنت وأمي, نعم إن رأيت بها حلبا
فاحلبها.. فدعى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشاة فمسح بيده
الشريفة ضرعها, وسمى الله ـ سبحانه وتعالى ـ ودعا لها فدرت اللبن
واجترت, وعلى الفور دعا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإناء كبير فحلب فيه
واللبن ينزل غزيرا حتى امتلأ الإناء, فقدمه إلى أم معبد فشربت حتى
رويت, وسقى أصحابه حتى رووا, وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ آخر من
شرب, ثم حلب ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الإناء ثانية حتى امتلأ, وتركه
لأم معبد وأهل بيتها. فلما عاد أبو معبد يسوق غنماته العجاف ورأى إناء
اللبن عجب لذلك, وسأل زوجته: من أين لك هذا اللبن؟ قالت: مر بنا رجل
مبارك, قال صفيه لي, فوصفته, قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش.
وصل خبر خروج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة قاصدا يثرب إلى
مسلمي هذه المدينة فكانوا يمشون كل غداة إلى الحرة, ينتظرون وصوله حتى
يردهم حر الظهيرة, فعادوا يوما بعد أن أطالوا انتظارهم ليسمعوا بوصول
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه إلى قباء في صباح الاثنين الثامن
من ربيع الأول في السنة الأولى للهجرة (الموافق622/9/23 م)
فاستقبلوهما بالترحاب والبهجة والفرح, وقضى رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ في قباء بضع عشرة ليلة, وأسس فيها مسجد قباء وهو أول مسجد أسس
على التقوى. ثم تحول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة حيث
تزاحم أهلها على زمام ناقته كل يريد أن يظفر بنزول رسول الله وصحبه عنده
فيقول الرسول: دعوها فإنها مأمورة حتى بركت في مكان فسيح مخصص لتجفيف
التمر يملكه غلامان يتيمان في المدينة, فقام الأنصار بشراء الأرض التي
بني عليها المسجد النبوي الشريف, وقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بالصلح بين قبيلتي الأوس والخزرج, وبالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار,
وبعقد المعاهدات مع اليهود الذين كانوا يعيشون في المدينة, وقام بوضع
دستور المدينة, أول دستور عادل تعرفه البشرية, الذي على أساسه قامت
دولة الإسلام.
من هنا يتضح وجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في النص القرآني الذي اخترناه
عنوانا لهذا المقال, الذي يشهد لكتاب الله بأنه لا يمكن أن يكون صناعة
بشرية, ويشهد للنبي الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة, فصلى الله وسلم
وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.